الأعمال الصالحة الدائمة
الحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد :
فإن هذه الحياة الدنيا دارُ عمل وابتلاء , وإن الآخرة هي دار الجزاء ,
فالعامل في هذه الحياة الدنيا أشبهُ شيء بالزارع الذي يزرع الحب ثم يحصده
بعد ذلك , فإذا هو اعتنى به عناية كبيرة ولم يستهلكه قبل أوان نضجه فإنه
يحصد حبّا جيدًا .
وإن أوان حصاد الثمرة من الأعمال الطيبة إنما
يكون في الآخرة , فالذي يستهلك ثمرة أعماله في الدنيا لايحصد في الآخرة إلا
الندامة , فبعض الناس يقومون بأعمال البر والخير سواء منها اللازم لهم أو
المتعدي إلى غيرهم , لكنهم لايريدون بها وجه الله تعالى , وإنما يريدون بها
السمعة والجاه بين الناس , وقد يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا , فيريدون وجه
الله ويريدون أيضا ثناء الناس عليهم , فعلى قدر إخلاص الإنسان لله تعالى
يحصد ثمرة عمله في الآخرة .
وإذا كان في معلوم المسلم أن الحياة
الآخرة هي دار الخلود , وأن مستقبله في هذه الحياة يتحدد على ضوء مايقدَّم
في الدنيا من عمل فإن العقل كلَّ العقل أن يكون أكبر همه تقديمُ العمل
الصالح الذي يرفع الله جل وعلا به رصيده من الحسنات , ولكن مادامت الفرصة
محدودة في الحياة الدنيا , خاصة وأن أعمار هذه الأمة مابين الستين والسبعين
غالبا لمن وصلوا إلى سن الشيخوخة فماذا يعمل من يود أن يستمر في العمل
الصالح لتستمر حسناته في النماء والزيادة وترتفع درجاته في الجنة ؟!
يجيب
على هذا التساؤل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا
مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثٌ إلا من صدقة جارية , أو علم
ينتفع به , أو ولد صالح يدعو له" أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه ([1])فإن هذا الحديث الشريف يبين لنا السُّبُل التي
يستمر بها رفع أعمالنا الصالحة بعد مفارقة هذه الحياة .
إن الإنسان
المسلم بحاجة إلى حسنة ترفع من رصيده يوم القيامة , فقد يقع في سيئات
لايحسب لها حسابا فينفعُه الله برصيده الكبير من الحسنات التي يمحو الله
بها السيئات , فإذا توافر للإنسان عمل صالح لاينقطع بموته فهذا هو المعدن
الكريم والمورد الدائم الذي ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون .
إن
الناس جميعا يموتون وتموت معهم أعمالهم إلا المؤمنين الذين رتبوا لأنفسهم
أعمالا يستمر عطاؤها لهم بعد مماتهم , وإنه لخير عظيم وفضل عميم .
لقد
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ثلاثة أعمال يستمر نفعها
للإنسان بعد موته ويُرفع له بها عمل صالح .
1 –
صدقة جارية : وهي التي يبقى أصلها ثابتا ويُتصدق بما ينتج عنها من
ريعها كالأوقاف , ولقد أدرك المسلمون قيمة الأوقاف لما يترتب عليها من
استمرار العمل الصالح, فكان من نتيجة ذلك قيام مرافق اجتماعية مهمة على هذه
الأوقاف كالمساجد والمدارس والمكتبات ودور الأيتام والعجزة , وكان الدافع
للمسلمين في ذلك البذل هو الاستجابة لتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم في
هذا الحديث , وهذا يُعدُّ من مقاييس صلاح المجتمع ووعيه الصحيح لمفاهيم
دينه .
2 – أو علم ينتفع به : والمقصود
بذلك العلمُ الذي يستمر انتفاع طلاب العلم منه بعد موت صاحبه , وإنَّ من
أبرز مايدخل في ذلك الكتب الإسلامية , ولقد أدرك ذلك العلماء رحمهم الله
تعالى فأثروا المكتبة الإسلامية بمؤلفاتهم التي خلَّدت ذكرهم إلى أن يرث
الله الأرض ومن عليها, وكم من دعوات صالحة نالها هؤلاء العلماء من
المنتفعين بكتبهم من طلاب العلم على مر العصور.
وإن ما يخلِّفه
العالم من طلاب العلم الذين يُعدُّون امتدادا لمدرسته ممَّا يدخل في مفهوم
هذا الحديث , لأن هؤلاء الطلاب يحملون علمه إلى الناس المعاصرين لهم
ويورثونه من يأتي بعدهم .
ومن هنا يتبين لنا أن تربية التلاميذ
وتعليمهم حتى يصبحوا قادرين على حمل مسؤولية العلم أمرٌ مهم لايقل عن تأليف
الكتب أهمية , بل كلاهما مصدر لبث العلم النافع .
ولقد اكتُشفتْ في
هذا العصر وسائل نافعة لحمل العلم مدة طويلة وأدائه بصوت صاحبه أو بصوته
وصورته معا بعد موته وكأنه لايزال على قيد الحياة .
ومن قوله صلى
الله عليه وسلم "أو علم ينتفع به" نفهم أن هذا الخير الكبير الذي هو
استمرار العمل الصالح بعد الموت إنما يكون بالجمع بين كون ما يُؤدَّى علما
وكونه نافعا , فإذا لم يكن علما أو كان غير نافع فإنه لايترتب عليه رفع عمل
صالح .
3 – أو ولد صالح يدعو له : والولد
يعني المولود فهو يشمل الذكر والأنثى , وهذا العنصر الثالث يلزم لتحقق
الانتفاع به ثلاثة أشياء : وجود الأولاد من بنين وبنات , وكونهم صالحين,
واهتمامهم بالدعاء لوالديهم , فإذا تحقق ذلك فإن الإنسان يستمر عمله الصالح
بعد موته , وهو بهذا يجني ثمرات جهده الطويل واهتمامه الكبير بتربية
أولاده حتى أصبحوا صالحين .
وفي هذه الجملة لفتة كريمة نحو التركيز
على تربية الأولاد وتوجيههم الوجهة الصالحة, مهما كلف ذلك الأباء والأمهات
من جهد وعناء , فالإنسان حينما يهتم بتربية أولاده التربية الصالحة يكتسب
عدة مكاسب , فهو أولا يثاب على جهده في تلك التربية لأن ذلك عمل صالح, وهو
ثانيًا يُسهم في تكوين المجتمع الصالح , لأن المجتمع مكوَّن من أفراد ,
فإذا بذل كل صاحب أسرة جهده في تربية أولاده على الصلاح تعدد وجود الأفراد
الصالحين الذين يقوم بهم المجتمع الصالح , وهو ثالثًا يستفيد من دعائهم
الصالح له بعد موته , فيكون بوجودهم كأنه مايزال على قيد الحياة ويقدم
الأعمال الصالحة .
ولنا عود على العنصر الأول وهو قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم "صدقة جارية" فإن بإمكان كل مسلم يملك شيئا من المال أن
يوقف من ماله ولو شيئا يسيرا بينما قد لايكون بإمكان الإنسان أن يخلِّف
علما ينتفع به , لكونه ليس من أهل العلم , وقد لايكون له أولاد أو لايكونون
صالحين حتى يدعوا له , فيظل الوقف الإسلامي مجالا واسعا يستطيع كل مسلم أن
يستفيد منه بعد موته