صنعت منه الثورة جراحا متخصصا..طبيب "سي الحواس" يتحدث لـ"الشروق":
عالجتُ حروق "النابالم" بزيت الزيتون وأجريت عمليات جراحية بزجاجة!
تكشف حالة جراح الولاية السادسة التاريخية كيف صنعت الثورة التحريرية المظفرة من مجرد تقنيين صحيين إلى جراحين بامتياز، أنقذوا حياة المئات بل الألوف من الموت المحقق الذي زرعته الآلة العسكرية الاستعمارية الفرنسية جريا وراء سراب »إلدورادو الجزائر الفرنسية«.
# في هذه الحالة، يقص المجاهد محمد الشريف خير الدين، طبيب الولاية السادسة، كيف صنعت منه المحن وضرورات الثورة، جراحا ماهرا... لم يكن هذا المجاهد سوى مجرد ممرض في مستشفى لافيجري بمدينة القنطرة ببسكرة، كانت تديره الأخوات البيض، عمل خلالها خمس سنوات في قسم الجراحة، وخمس سنوات أخرى في قسم العمليات.
#
وقد شكل عمل عمي خير الدين بمستشفى الأخوات البيض، قاعدة خلفية للمجاهدين الذين كانوا في حاجة جد ماسة للدواء، لمداواة جرحى المعارك المستمرة مع العدو المستعمر، في ظل سياسة الأرض المحروقة المطبقة ضد الجزائريين على جميع الأصعدة، وعليه فقد استغل الفرصة لإمداد إخوانه في الجهاد بما أمكن من الأدوية وأدوات العلاج بعيدا عن أعين جنود الاحتلال ومسؤولي المستشفى.
#
#
قصة المشرحة والتحاقه بالجبل
#
كانت حاجة الثورة للمجاهد خير الدين الشريف أكثر في بقائه بالمستشفى الفرنسي على التحاقه بإخوانه المجاهدين في الجبل، نظرا لما كان يقدمه لهم من أدوية وأدوات الجراحة التي كانت حركتها تحت رقابة مشددة، غير أن اكتشاف عيون المستعمر لشحنة من أدوات التشريح وبعض الأدوية كانت في طريقها للجبل، جعلت المجاهد محمد الشريف خير الدين في مقدمة المطلوبين لدى الجيش الاستعماري، لسهولة اكتشاف مصدر المواد المهربة من المستشفى الذي يعمل به عمي خير الدين، الأمر الذي حتّم عليه الالتحاق برفاقه في الفيافي.
#
أصبح المجاهد محمد الشريف خير الدين أحد رفاق البطل الشهيد سي الحواس، الذي عيّنه طبيبا للكتيبة.. ولما كثرت المعارك زاد عدد الجرحى بحيث وصل إلى 12 جريحا كنت أقوم بعلاجهم في مستشفى متنقل بجبل مساعد، يقول محدثنا... عندها زادت حاجته للدواء ووسائل العلاج، فلم يجد من حل سوى اللجوء لبعض الممرضات الجزائريات اللواتي كنّ يعملن بالمستشفيات الفرنسية، غير أن ذلك لم يكن كافيا لسد الحاجيات المتزايدة، الأمر الذي اضطره للجوء إلى أحد الصيادلة اليهود بمدينة بسكرة.
#
#
عند الصيدلي اليهودي
#
لم يخف الأغلبية الساحقة من اليهود الذين كانوا في الجزائر إبان الحقبة الاستعمارية ولاءهم للمستعمر الفرنسي ومعاداتهم للشعب الجزائري الذي آواهم واحتضنهم على مر القرون بعد هروبهم من بطش المسيحيين الأسبان بعد سقوط الأندلس، غير أن عداوة هؤلاء البشر سرعان ما تسقط عندما تصطدم بالمصلحة، وهي الحقيقة التي تفطّن لها الطبيب المجاهد، بحيث نجح في إقناع الصيدلي اليهودي بتزويد مستشفاه المتنقل بالدواء والمستلزمات الطبية...
#
#
الأعشاب وزيت الزيتون لعلاج حروق النابالم
#
مع اشتداد المعارك بين المجاهدين وقوات الاحتلال، يضيف المتحدث، لم تعد أدوية »اليهودي« كافية لتلبية متطلبات المستشفى المتنقل، لا سيما بعد أن لجأت القوات المستعمرة إلى أسلحة فتاكة، على غرار قنابل النابالم التي تصيب ضحيتها بحروق غائرة... عندها لجأ المجاهد الجراح إلى الأعشاب وزيت الزيتون لمداواة حروق النابالم، كما عمد إلى تصنيع الضمادات الموجهة لجبر الكسور، بأدوات بسيطة وتقليدية بالاعتماد على قماش وكلس.
#
#
أنقذ مجاهدا أصيب في رأسه وأجرى عملية جراحية فوق صندوق
#
ومن أغرب ما واجهه المجاهد الجراح، حالة مجاهد أصابته رصاصات في رأسه ففقد بصره ولم يعد قادرا حتى الأكل... عندها لم يجد طبيب الولاية السادسة من وسيلة لإنقاذ حياة هذا الجريح، في ظل غياب الإمكانات، سوى في حفر حفرة وضع فيها الجريح بشكل يمنع رأسه من أية حركة، وقام بإخاطة فمه ونزع أحد ضروسه حتى يتمكن من إدخال أنبوب إلى بلعومه لإطعامه بالحليب، قبل أن يكلف أحد الجنود بصب الماء على رأسه كل نصف ساعة لحمايته من الحرارة... وكم كانت مفاجأته كبيرة عندما استعاد هذا المجاهد بصره وصحته.
#
#
أكثر من ألف عملية جراحية
#
وقد وصلت العمليات الجراحية التي قام بها المجاهد الجراح في الجبل، أكثر من ألف عملية في ظروف جد صعبة، وبإمكانات محدودة... غير أنه ومع اشتداد المعارك وتزايد عدد الجرحى، اقترح محمد الشريف خير الدين على قائد الولاية السادسة، العقيد سي الحواس، إقامة مراكز لتكوين جراحين وممرضين، وتمكن من تخريج أول دفعة تضم من ستة إلى سبعة ممرضين وتقنيين في الصحة، ما مكّن من إرفاق كل كتيبة بممرض، وهي خاصية امتازت بها الولاية السادسة، التي لم ترسل ولو مريض واحد للعلاج بالخارج، على عكس بقية الولايات التاريخية الخمس الأخرى، يضيف المتحدث.